Nov 17, 2014

Arti Innama Q.S : Al-Baqarah : 173

* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه أربع وثلاثون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } «إنّما» كلمة موضوعة للحصر، تتضمّن النفي والإثبات؛ فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حَصرت ها هنا التحريم، لاسيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المُحَرّم بكلمة «إنما» الحاصرة، فٱقتضى ذلك الإيعاب للقسمين؛ فلا محرّم يخرج عن هذه الآية، وهي مدَنيّة؛ وأكّدها بالآية الأخرى التي رُوِيَ أنها نزلت بعَرَفة:
قُل لاَ أَجِدُ فِيمَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ }
[الأنعام: 145] إلى آخرها؛ فٱستوفى البيان أوّلاً وآخراً؛ قاله ٱبن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في «الأنعام» إن شاء الله تعالى.

الثانية: { ٱلْمَيْتَةَ } نصب بـ «ـحرّم»، و «ما» كافّة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع { ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } على خبر «إنّ» وهي قراءة ٱبن أبي عَبْلة. وفي «حَرّم» ضمير يعود على الذي؛ ونظيره قوله تعالى:
إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ }
[طه: 69]. وقرأ أبو جعفر «حُرِم» بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إمّا على ما لم يُسَمّ فاعله، وإمّا على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع أيضاً «ٱلْمَيْتَةَ» بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في مَيْتٍ ومَيّتٍ لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يَمُت بعدُ فلا يقال فيه «مَيْت» بالتخفيف؛ دليله قوله تعالى:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }
[الزمر: 30]. وقال الشاعر:
ليس من مات فٱستراح بمَيْت   إنما الميْت مَيّت الأحياء
ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت؛ إلا ما رَوى البَزِّي عن ٱبن كَثير «وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ» والمشهور عنه التثقيل؛ وأما قول الشاعر:
إذا ما مات مَيْتٌ من تميم   فَسّرك أن يعيش فجىء بزاد
فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة؛ وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت؛ والأوّل أشهر.

الثالثة: الْميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يُذبح؛ وما ليس بمأكول فذكاته كموته؛ كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي «الأنعام» إن شاء الله تعالى.

الرابعة: هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: " أُحِلّت لنا مَيْتَتَانِ الحُوتُ والجراد ودَمانِ الكبدُ والطحال " أخرجه الدَّارَقُطْنِي، وكذلك: حديث جابر في العَنْبَر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرّجه البخاريّ ومسلم مع قوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ }
[المائدة: 96]، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء الله تعالى.

وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حَيّها ومَيّتها؛ وهو مذهب مالك. وتوقّف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا! قال ٱبن القاسم: وأنا أتّقيه ولا أراه حراماً
 
 
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله: { كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ } هذا تأكيد للأمر الأول: أعني قوله: { يـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلأرْضِ حَلَـٰلاً طَيّباً } وإنما خص المؤمنين هنا؛ لكونهم أفضل أنواع الناس. وقيل: والمراد بالأكل الانتفاع. وقيل المراد به الأكل المعتاد، وهو الظاهر. قوله: { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } قد تقدّم أنه يقال شكره، وشكر له يتعدى بنفسه، وبالحرف. وقوله: { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي: تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدّم المفعول.
قوله: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } قرأ أبو جعفر: " حُرِّم " على البناء للمفعول، و { إِنَّمَا } كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب، وتنفي ما عداه. وقد حصرت ها هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها. قوله: { ٱلْمَيْتَةُ } قرأ ابن أبي عبلة بالرفع، ووجه ذلك أنه يجعل «ما» في { إنما } موصولة منفصلة في الخط، والميتة وما بعدها خبر الموصول، وقراءة الجميع بالنصب. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " المِّيتة " بتشديد الياء، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التشديد والتخفيف. والميتة: ما فارقها الروح من غير ذكاة. وقد خصص هذا العموم بمثل حديث: «أحلّ لنا ميتتان ودمان» أخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عمر مرفوعاً، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ }
[المائدة: 96] فالمراد بالميتة هنا ميتة البرّ لا ميتة البحر. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها، وميتها. وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء. وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه، ولا أراه حراماً.
قوله: { وَٱلدَّمَ } قد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى:
أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا }
[الأنعام: 145] فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي: بالإجماع. وقد روت عائشة؛ أنها كانت تطبخ اللحم، فتعلو الصفرة على البُرْمَة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره.
قوله: { وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } ظاهر هذه الآية، والآية الأخرى أعني قوله تعالى:
قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ اِلي مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ }
[الأنعام: 145] أن المحرّم إنما هو: اللحم فقط. وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم. وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر، فإنه تجوز الخرازة به. قوله: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } الإهلال: رفع الصوت، يقال أهلّ بكذا، أي: رفع صوته.
 
 
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: لا تـحرّموا علـى أنفسكم ما لـم أحرّمه علـيكم أيها الـمؤمنون بـالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونـحو ذلك، بل كلوا ذلك فإنـي لـم أحرّم علـيكم غير الـميتة والدم ولـحم الـخنزير وما أهلّ به لغيري.
ومعنى قوله: { إنـمَا حَرَّمَ عَلَـيْكُمُ الَـميْتَةَ }: ما حرم علـيكم إلا الـميتة: «وإنـما»: حرف واحد، ولذلك نصبت الـميتة والدم، وغير جائز فـي الـميتة إذا جعلت «إنـما» حرفـاً واحداً إلا النصب، ولو كانت «إنـما» حرفـين وكانت منفصلة من «إنّ» لكانت الـميتة مرفوعة وما بعدها، وكان تأويـل الكلام حينئذٍ: إن الذي حرّم الله علـيكم من الـمطاعم الـميتةُ والدم ولـحم الـخنزير لا غير ذلك.
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل. ولست للقراءة به مستـجيزاً، وإن كان له فـي التأويـل والعربـية وجه مفهوم، لاتفـاق الـحجة من القراء علـى خلافه، فغير جائز لأحد الاعتراض علـيهم فـيـما نقلوه مـجمعين علـيه، ولو قرىء فـي «حرّم» بضم الـحاء من «حرم» لكان فـي الـميتة وجهان من الرفع: أحدهما من أن الفـاعل غير مسمى، و«إنـما» حرف واحد. والآخر «إن» و«ما» فـي معنى حرفـين، و«حرم» من صلة «ما»، والـميتة خبر «الذي» مرفوع علـى الـخبر، ولست وإن كان لذلك أيضاً وجه مستـجيزاً للقراءة به لـما ذكرت.
وأما الـميتة فإن القراء مختلفة فـي قراءتها، فقرأها بعضهم بـالتـخفـيف ومعناه فـيها التشديد، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون: هو هيْن لِّـين الهيْن اللـيْن، كما قال الشاعر:
لـيسَ مَنْ ماتَ فـاسْترَاحَ بـمَيْتٍ   إنَّـمَا الـمَيْتُ مَيِّتُ الأحْياء
فجمع بـين اللغتـين فـي بـيت واحد فـي معنى واحد. وقرأها بعضهم بـالتشديد وحملوها علـى الأصل، وقالوا: إنـما هو «مَيْوت»، فـيعل من الـموت، ولكن الـياء الساكنة والواو الـمتـحركة لـما اجتـمعتا والـياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة، كما فعلوا ذلك فـي سيد وجيد. قالوا: ومن خففها فإنـما طلب الـخفة. والقراءة بها علـى أصلها الذي هو أصلها أولـى.
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن التـخفـيف والتشديد فـي ياء الـميتة لغتان معروفتان فـي القراءة وفـي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف فـي معنـيـيهما.
وأما قوله: { وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } فإنه يعنـي به: وما ذبح للآلهة والأوثان يسمى علـيه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام. وإنـما قـيـل: { وَما أُهِلَّ بِهِ ل } أنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لآلهتهم سمَّوُا اسم آلهتهم التـي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم، فجرى ذلك من أمرهم علـى ذلك حتـى قـيـل لكل ذابح يسمي أو لـم يسم جهر بـالتسمية أو لـم يجهر: «مهلٌ»، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالـى فقال: { وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } ومن ذلك قـيـل للـملبـي فـي حجة أو عمرة مهلّ، لرفعه صوته بـالتلبـية ومنه استهلال الصبـيّ: إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه، واستهلال الـمطر: وهو صوت وقوعه علـى الأرض، كما قال عمرو بن قميئة:
 
 
* تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51]، وقال: { يـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنىٰ يستجاب لذلك؟ " ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق. ولما امتن تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر؛ لقوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ }
[المائدة: 96] على ما سيأتي إن شاء الله، وحديث العنبر في الصحيح، وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعاً: " أحل لنا ميتتان ودمان؛ السمك والجراد، والكبد والطحال " وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.
(مسألة) ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره؛ لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية: هو طاهر، إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف، والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في التفسير: ههنا يخالط اللبن منها يسير، ويعف عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع. وقد روى ابن ماجه من حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذكي أم مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه، إما تغليباً، أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي.
 
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

بيّن الله تعالى حال الذين يتّخذون الأنداد من دونه، وأشار إلى أنّ سبب ذلك حبّ الحطام، وإرتباط مصالح المرؤسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلّهم بأن يأكلوا مما في الأرض، إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيّباً، وبيّن سوء حال الكافرين المقلّدين الذين يقودهم الرؤساء، كما يقود الراعي الغنم; لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم، ثمّ وجّه الخطاب إلى المؤمنين خاصّة; لأنّهم أحقّ بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالإهتداء فقال:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } الأمر هنا للوجوب لا للإباحة، والطيّبات: ما طاب كسبه من الحلال، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تديّناً لتعذيب النفس، وهذا تنبيه بعد ما تقدّم إلى عدم الإلتفات إلى أولئك الحمقى، الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلّون بعضها ويحرمون بعضاً بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم، وأعطوا ميزاناً يميّزون به الخواطر الشيطانية الضارّة من غيرها، فما أقاموا به ولا له وزناً، وبيّن لهم الحرام من الحلال، ولكنّهم نفضوا أيديهم من عزّ الاستقلال بالإستدلال، وهوّن عليهم التقليد ذلّ القيود والأغلال، فهو يقول كلوا من هذه الطيّبات ولا تضيّقوا على أنفسكم مثلهم { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ } الذي خلقها لكم وسهّل عليكم أسبابها، بأن تتّبعوا سنّته الحكيمة في طلب هذه الطيّبات وإستخراجها، وفي إستعمالها فيما خلقت لأجله، وبالثناء عليه جلّ جلاله وعمّ نواله، وإعتقاد أنّ هذه الطيّبات من فضله وإحسانه، ليس لمن اتّخذوا أنداداً له تأثير فيها، ولذلك قال: { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي: إن كنتم تخصّونه بالعبادة، وتؤمنون بإنفراده بالسلطة والتدبير، فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم، ولا تجعلوا له أنداداً تطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم، فإن ذلك له وحده، وإلاّ كنتم مشركين به، كافرين لنعمه، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتّخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق، ورؤساء يشرّعون لهم من الدين ما لم يشرّعه، ويحلّون لهم ويحرّمون عليهم ما لم يشرّعه لهم. ومن الشكر له تعالى: إستعمال القوى التي غذّيت بتلك الطيّبات في نفع أنفسكم وأمّتكم وجنسكم. وليس من الطيبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم، بل هو من الخبائث والسحت.
الأستاذ الإمام: لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلاّ من كان عارفاً بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله، فإنّ المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقاً وأصنافاً، منهم من حرّم على نفسه أشياء معيّنة بأجناسها أو أصنافها، كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم، وكان المذهب الشائع في النصارى أنّ أقرب ما يتقرّب به إلى الله تعالى تعذيب النفس وإحتقارها وحرمانها من جميع الطيّبات المستلذّة، وإحتقار الجسد ولوازمه، وإعتقاد أن لا حياة للروح إلاّ بذلك، وأنّ الله تعالى لا يرضى منّا إلاّ إحياء الروح، وكان الحرمان من الطيّبات على أنواع: منها ما هو خاصّ بالقديسين، أو بالرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عامّ كأنواع الصوم الكثيرة، كصوم العذراء وصوم القديسين، وفي بعضها يحرّمون اللحم والسمن دون السمك، وفي بعضها يحرّمون السمك واللبن والبيض أيضاً، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء، وليس لها أثر ينقل عن التوراة، أو عن المسيح عليه السلام، وبذلك كانوا أنداداً، ونزل في شأنهم
 
 

* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } * { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } * { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }

المنَاسَبَة: لمّا بيّن تعالى التوحيد ودلائله، وما للمؤمنين المتقين والكفرة العاصين، أتبع ذلك بذكر إِنعامه على الكافر والمؤمن، ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الإِنعام، لأنه تعالى رب العالمين، فإِحسانه عام لجميع الأنام دون تمييز بين مؤمن وكافر وبرٍّ وفاجر، ثم دعا المؤمنين إِلى شكر المنعم جلَّ وعلا والأكل من الطيبات التي أباحها الله، واجتناب ما حرّمه الله من أنواع الخبائث.
اللغَة: { خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } جمع خُطوة وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي وتستعمل مجازاً في تتبع الآثار { ٱلسُّوۤءِ } أصل السُّوء ما يسوء الإِنسان أي يحزنه ويطلق على المعصية قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً لأنها تسوء صاحبها أي تحزنه في الحال أو المآل { ٱلْفَحْشَآءِ } ما يستعظم ويستفحش من المعاصي فهي أقبح أنواع المعاصي { أَلْفَيْنَا } وجدنا ومنه
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا }
[يوسف: 25]
إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ }
[الصافات: 69] أي وجدوا { يَنْعِقُ } يصيح يقال: نعق الراعي بغنمه ينعِق نعيقاً إِذا صاح بها وزجرها قال الأخطل:
فانعِقْ بضأنك يا جريرُ فإِنما   مَنَّتك نفسُك في الخلاء ضلالاً
{ أُهِلَّ } الإِهلال: رفع الصوت يقال: أهلَّ المحرم إِذا رفع صوته بالتلبية ومنه إِهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وكان المشركون إِذا ذبحوا ذكروا اللات والعزَّى ورفعوا بذلك أصواتهم { ٱضْطُرَّ } أُلجئ أي ألجأته الضرورة إلى الأكل من المحرمات { بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } الباغي من البغي والعادي من العدوان، وهما بمعنى الظلم وتجاوز الحدّ { يُزَكِّيهِمْ } يطهرهم من التزكية وهي التطهير { شِقَاقٍ } الشقاق: الخلاف والعداوة.
التفسِير: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } الخطاب عام لجميع البشر أي كلوا ممّا أحله الله لكم من الطيبات حال كونه مستطاباً في نفسه غير ضار بالأبدان والعقول { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } أي لا تقتدوا بآثار الشيطان فيما يزينه لكم من المعاصي والفواحش { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي إِنه عظيم العداوة لكم وعداوته ظاهرة لا تخفى على عاقل { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ } أي لا يأمركم الشيطان بما فيه خير إِنما يأمركم بالمعاصي والمنكرات وما تناهى في القبح من الرذائل { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي وأن تفتروا على الله بتحريم ما أحل لكم وتحليل ما حرّم عليكم فتحلوا وتحرّموا من تلقاء أنفسكم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي وإِذا قيل للمشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي والقرآن واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } أي بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، قال تعالى في الردّ عليهم { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } أي أيتّبعون آباءهم ولو كانوا سفهاء أغبياء ليس لهم عقل يردعهم عن الشر ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من حالهم في تقليدهم الأعمى للآباء، ثم ضرب تعالى مثلاً للكافرين في غاية الوضوح والجلاء فقال تعالى { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } أي ومثل الكفار في عدم انتفاعهم بالقرآن وحججه الساطعة ومثل من يدعوهم إِلى الهدى كمثل الراعي الذي يصيح بغنمه ويزجرها فهي تسمع الصوت والنداء دون أن تفهم الكلام والمراد، أو تدرك المعنى الذي يقال لها، فهؤلاء الكفار كالدواب السارحة لا يفهمون ما تدعوهم إِليه ولا يفقهون، يسمعون القرآن ويصمّون عنه الآذان
 
 
 
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عُبَّاده، والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعَمُه حرامٌ، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك؟ " ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طِّيبه، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ }
[المائدة: 96]، وقوله عليه السلام في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.
ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } أي في أكل ذلك. { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. قال مجاهد: { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } من خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وقال مقاتل بن حيان: { غَيْرَ بَاغٍ } يعني غير مستحله، وقال السُّدي: { غَيْرَ بَاغٍ } يبتغي فيه شهواته، وعن ابن عباس: لا يشبع منها وعنه: { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال: { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة، ولا عادٍ في أكله، وقال قتادة: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال: غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام هو يجد عنه مندوحة، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ } أي أكره على ذلك بغير اختياره.
مسألة
إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير، بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف لحديث عباد بن شرحيل العنزي قال: أصابتنا عاماً مخمصةٌ فأتيت المدينة، فأتيت حائطاً، فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: " ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً، ولا علَّمته إذ كان جاهلاً " فأمره فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق طعام أو نصف وسق. وقال مقاتل بن حيان: في قوله: { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد على ثلاث لقم، وقال سعيد بن جبير: { غَفُورٌ } لما أكل من الحرام { رَّحِيمٌ } إذ أحل له الحرام في اضطرار، وقال مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار، وهذا يقتضي أنّ أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، وهذا هو الصحيح كالإفطار للمريض
 
 
 

* تفسير تفسير آيات الأحكام/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

[6] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث
التحليل اللفظي
{ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ }: الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين:
أحدهما: الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }
[إبراهيم: 7].
والثاني: صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له.
{ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ }: الإهلال رفع الصوت، يقال: أهلّ بكذا أي رفع صوته، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر:
يُهلّ بالفرقد ركبانُها   كما يُهلْ الراكبُ المعتمرُ
وأصل الإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقاً، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم.
والمعنى: حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت، وذكر عليه اسم غير الله. قال الزمخشري: وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى.
{ ٱضْطُرَّ }: أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله.
قال القرطبي: فيه اضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو (افتعل) من الضرورة وأصله (اضطرر).
{ بَاغٍ }: الباغي في اللغة: الطالب لخير أو لشر ومنه حديث " يا باغي الخير أقبل " وخُصّ هنا بطالب الشر.
قال الزجاج: البغي قصدُ الفساد، يقال: بغى الجرح إذا ترامى للفساد. وبغت المرأة إذا فجرت.
{ عَادٍ }: اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد.
والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها.
قال الطبري: " وأولى هذه الأقوال قول من قال: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ } بأكله ما حرم عليه من أكله { وَلاَ عَادٍ } في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى ".
المعنى الإجمالي
يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال، والرزق الطيب، والمتاع النافع، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم، إن كانوا حقاً صادقين في دعوى الإيمان، عابدين الله منقادين لحكمه، مطيعين لأمره، لا يعبدون الأهواء والشهوات.
ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة، التي تنفر منها الطباع السليمة، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر الخبائث، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله، لكنّ إذا اضطر الإنسان، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات، غير باغٍ بأكله ما حرم الله عليه، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة، لأن الله غفور رحيم، يغفر للمضطر ما صدر منه عن غير إرادة، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج.
 
 
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م) مصنف و مدقق

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

(173) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلمُؤْمِنِينَ مَا حَرَّمُهُ عَلَيهِمْ مِنَ المآكِلِ: المَيْتَةَ (وَهيَ الحَيَوانُ الذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيرِ تَذْكِيَةٍ وَلاَ ذَبْحٍ) والدَّمَ المَسْفُوحَ، وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ، وَمَا ذُبِحَ مِنَ الأَنْعَامِ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ كَالأَصْنَامِ، وَالأَوْثَانِ، فَهذا كُلُّهُ حَرَامٌ.
أَمَّا الذِينَ يُضْطَرُّونَ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ، وَهُمْ لاَ يَجِدُونَ وَسِيلَةً أُخْرَى لِلْحُصُولِ عَلَى مَا يَسُدُّ رَمَقَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ الحَلاَلِ، مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَيْلٌ إِلَى تَعَدِّي الحَلاَلِ إِلَى الحَرَامِ، وَهُمْ يَجِدُونَ عَنْ أَكْلِ الحَرَامِ مَنْدُوحَةً (غَيْرَ بَاغٍ)، وَدُونَ أَنْ يُجَاوِزُوا فِيمَا يَأْكُلُونَ حُدَودَ الضَرُورَةِ الَّتِي تَكْفِي لِسَدِّ الرَّمَقِ، وَحِفْظِ الحَيَاةِ، حَتَّى يَجِدُوا الطَّعَامَ الحَلالَ (عَادٍ)، فَهؤُلاءِ لا إِثْمَ عَلَيهِمْ وَلا مَسْؤولِيَّةَ. وَاللهُ تَعَالَى غَفُورٌ لَهُمْ لِما أَكَلُوا مِنَ الحَرَامِ، رَحِيمٌ بِهِمْ إِذ أَحَلَّ لَهُمُ الحَرَامَ فِي حَالَةِ الاضْطِرَارِ.
وَلاَ عَادٍ - غَيْرَ مُتََجَاوِزٍ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ.
غَيْرَ بَاغٍ - غَيْرَ طَالِبٍ لِلحَرَامِ لِلَذَّةٍ أَوِ اسْتِئْثَارٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ
 
 
 
* تفسير المنتخب في تفسير القرآن الكريم / لجنة القرآن و السنة مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

172- لقد أبحنا للناس كل حلال خلقناه لهم فى الأرض، ونهيناهم أن يتبعوا خطوات الشيطان، فإنْ فعلوا اهتدوا، وإن أبوا فإنا نخص المؤمنين بهدايتنا ونبيِّن الحلال والحرام، فيا أيها الذين آمنوا أبيح لكم أن تأكلوا من لذيذ الطعام الطيب غير الخبيث، فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات وإباحتها، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره لتتم عبادتكم.
173- وليس المحرم ما زعمه المشركون وما زعمه اليهود، وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التى لم تذبح من الحيوان، ومن الدم المسفوح، ومثله فى التحريم لحم الخنزير، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله من الوثن ونحوه، على أن من اضطر إلى تناول شئ من هذه المحظورات لجوعٍ لا يجد ما يدفعه غيرها أو لإكراه على أكله فلا بأس عليه، وليتجنب سبيل الجاهلية من طلب هذه المحرمات والرغبة فيها ولا يتجاوز ما يسد الجوع.
174- هذا وقد كان من العالمِين بما أنزل الله فريقٌ يُخفى بَعْضَ الوحى لقاء عَرَضٍ من أعراض الدنيا، فإن اليهود كتموا كثيراً مما جاء فى التوراة من نعت الرسول خشيةَ أن يُسْلِم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهم ولذيذ مطاعمهم، وإن مطاعمهم من هذا السبيل لهى كالنار يأكلونها، لأنها ستقودهم إلى النار، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة، ولا يطهرهم من دنسهم، وأمامهم عذاب شديد موجع.
 

 
* تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

الاهلال: رفع الصوت. وما أُهل به لغير الله: ما ذبح لصنم أو معبود غير الله.
يتجه الخطاب هنا الى المؤمنين خاصة، وليبيّن الله لهم ما حرم عليهم بعد أن طلب اليهم أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم. وكان الناس قبل الاسلام فِرقا، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة من الحيوان. وبعض أهل الاديان السابقة يتقربون الى الله بتعذيب أنفسهم وتحريم بعض المأكولات، واحتقار الجسد، وغير ذلك من ألوان التحريم الذي كان من عند أنفسهم، ومن وضع رؤسائهم.
وقد جعل الله تعالى هذه الأمة وسطاً تعطي الجسد حقه، والروح حقها. فأباح ان نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تديُّناً ولا تعذيباً للنفس، ولا نحرم بعضا ونحلل بعضا، تقليداً للرؤساء والحاكمين فقال: يا أيها الذين آمنوا أبيحَ لكم أن تأكلوا من الطعام الطيَب فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره انت كنتم تعبدونه حقا. وسأبيّن لكم المحرم عليكم فلا تسمعوا للمشركين وما حرّموا، ولا لما زعمه اليهود وغيرهم. ان المحرم عليكم هو ما مات من الحيوان ولم يذبح، فالميتة مؤذية للجسم. ونحن نعرف ان ما يموت بشيخوخة أو مرض يكون موته بسبب مواد سامة ضارة عجز جسمه عن دفع أذاها. اما في حال الاختناق أو الحرق والغرق فان الدم تتكون فيه مواد ضارة كثيرة.
والدم حرام عليكم أيضا: وكان العرب يأكلونه ويقدمونه لضيوفهم. كانوا يفصدون الحيوان ويحشون ما يسيل من عِرقِه في مصران يشوونه ثم يأكلونه، وربما شربوا الدم طلباً للقوّة، فحرمه الله.
ولحم الخنزير: لأنه ضار وناقل للكثير من الأمراض الخطيرة، ولا سيما في البلاد الحارة.
وما أُهل به لغير الله: كان العرب يذبحون القرابين لأصنامهم وآلهتهم ويرفعون أصواتهم باسم آلهتهم. وهذا شرك وكفر.
ثم يضع قاعدة جليلة هي اباحة هذه الممنوعات عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات. ولذلك قال تعالى: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } فمن أُلجىء الى أكل شيء مما حرم الله بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك جوعاً، ولم يكن راغباً فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة ـ فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم.



* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ } الآية.
ظاهر هذه الآية أن جميع أنواع الميتة والدم حرام، ولكنه بين في موضع آخر أن ميتة البحر خارجة عن ذلك التحريم وهو قوله:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ }
[المائدة: 96] الآية. إذ ليس للبحر طعام غير الصيد إلا ميتته. وما ذكره بعض العلماء من أن المراد [بطعامه] قديده المجفف بالملح مثلاً، وأن المراد [بصيده] الطري منه. فهو خلاف الظاهر. لأن القديد من صيده فهو صيد جعل قديداً، وجمهور العلماء على أن المراد بطعامه ميتته. منهم: أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنهم أجمعين - وعكرمة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وغيرهم. كما نقله عنهم ابن كثير. وأشار في موضع آخر إلى أن غير المسفوح من الدماء ليس بحرام، وهو قوله:
إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً }
[الأنعام: 145]، فيفهم منه أن غير المسفوح كالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم ليس بحرام، إذ لو كان كالمسفوح لما كان في التقييد بقوله: { مَّسْفُوحاً } فائدة.
وقد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم " أن الله أحل له ولأمته ميتتين ودمين " أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال.
وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الأنعام إن شاء الله تعالى. وعنه صلى الله عليه وسلم في البحر: " هو الحل ميتته " ، أخرجه مالك وأصحاب السنن والإمام أحمد والبيهقي والدراقطني في سننيهما، والحاكم في المستدرك، وابن الجارود في المنتفى، وابن أبي شيبة. وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والبخاري.
وظاهر عموم هذا الحديث وعموم قوله تعالى: { وَطَعَامُهُ } يدل على إباحة ميتة البحر مطلقاً. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه أكل من العنبر، وهو حوت ألقاه البحر ميتاً وقصته مشهورة.
وحاصل تحرير فقه هذه المسالة أن ميتة البحر على قسمين: قسم لا يعيش إلا في الماء، وإن أخرج منه مات كالحوت، وقسم يعيش في البر، كالضفادع ونحوها.
أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالحوت، فميتته حلال عند جميع العلماء، وخالف أبو حنيفة - رحمه الله - فيما مات منه في البحر وطفا على وجه الماء، فقال فيه: هو مكروه الأكل، بخلاف ما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات، فإنه مباح الأكل عنده.
وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر كالضفادع، والسلحفاة، والسرطان، وترس الماء، فقد اختلف فيه العلماء. فذهب مالك بن أنس إلى أن ميتة البحر من ذلك كله مباحة الأكل، وسواء مات بنفسه، ووجد طافياً أو بالاصطياد، أو أخرج حياً، أو ألقي في النار، أو دس في طين.



* تفسير الوجيز/ الواحدي (ت 468 هـ) مصنف و مدقق

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } أَيْ: حلالات ما رزقناكم من الحرث والنَّعم وما حرَّمه المشركون على أنفسهم منهما { واشكروا لله إنْ كنتم إياه تعبدون } أَيْ: إنْ كانت العبادة واجبةً عليكم بأنَّه إلهكم فالشُّكر له واجبٌ، بأنه منعمٌ عليكم، ثمَّ بيَّن المُحرَّم ما هو فقال:
{ إنما حرَّم عليكم الميتة } وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبح { والدم } يعني: الدَّم السَّائل لقوله في موضع آخر:
أو دماً مسفوحاً }
وقد دخل هذين الجنسين الخصوصُ بالسُّنَّةِ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " أُحلَّت لنا ميتتان ودمان " الحديث. وقوله تعالى: { ولحم الخنزير } يعني: الخنزير بجميع أجزائه، وخصَّ اللَّحم لأنَّه المقصود بالأكل { وما أُهِلَّ به لغير الله } يعني: ما ذُبح للأصنام، فذكر عليه غير اسم الله تعالى { فمن اضطر } أَيْ: أُحوج وأُلْجِىءَ في حال الضَّرورة. [وقيل: مَنْ أكره على تناوله، وأُجبر على تناوله كما يُجبر على التَّلفُّظ بالباطل] { غير باغٍ } أَيْ: غير قاطعٍ للطَّريق مفارقٍ للأئمة مُشاقًّ للأمَّة { ولا عادٍ } ولا ظالم متعدٍّ، فأكلَ { فلا إثم عليه } وهذا يدلُّ على أنَّ العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضَّرورة { إنَّ الله غفور } للمعصية فلا يأخذ بما جعل فيه الرُّخصة { رحيمٌ } حيث رخَّص للمضطر.

No comments:

Entri Populer

Iklan